المركز الإعلامي - المقالات

تعزيز التعليم من أجل الاستدامة

تعزيز التعليم من أجل الاستدامة

بقلم:شريفة الهادى د. إيرين سامي فهيم ، د.هبة لبيب

 

مقدمة

في عالم يواجه تحديات بيئية واجتماعية واقتصادية متسارعة، أصبحت الاستدامة ليست مجرد خيار، بل ضرورة ملحة تتطلب تعاونًا عالميًا ومحليًا. تبرز مؤسسات التعليم العالي كعنصر محوري في هذا السياق، حيث تمتلك القدرة على تشكيل عقول القادة والمهنيين المستقبليين القادرين على قيادة التغيير نحو عالم أكثر استدامة. يهدف هذا المقال إلى استعراض كيفية دمج مبادئ الاستدامة في التعليم العالي من خلال نهج متعدد التخصصات، مع التركيز على دوره في تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) التي أقرتها الأمم المتحدة في عام 2015. كما يسلط الضوء على تجارب عملية من جامعات مصرية، ويناقش التحديات التي تواجه هذا الدمج والتوصيات اللازمة لتعزيزه.

أهمية التعليم المستدام وارتباطه بأهداف التنمية المستدامة

تضم أهداف التنمية المستدامة 17 هدفًا رئيسيًا تهدف إلى معالجة قضايا عالمية كبرى مثل الفقر، التفاوت الاجتماعي، تغير المناخ، والحفاظ على الموارد الطبيعية. هذه الأهداف ليست منفصلة، بل مترابطة بعمق، مما يتطلب نهجًا شاملًا لفهم العلاقات بين الأنظمة البيئية، الاجتماعية، والاقتصادية. يأتي التعليم المستدام هنا كأداة أساسية لتزويد الطلاب بالمعرفة والمهارات والقيم التي تمكنهم من مواجهة هذه التحديات المعقدة.

من الناحية المجتمعية، يساهم دمج الاستدامة في التعليم العالي في خلق قوى عاملة أكثر وعيًا بالقضايا البيئية والمسؤولية الاجتماعية. على سبيل المثال، يمكن للخريجين الذين تلقوا تعليمًا مستدامًا أن يعززوا الممارسات الصديقة للبيئة في الصناعات، مثل تقليل النفايات أو استخدام مصادر الطاقة المتجددة، مما يؤدي إلى تكوين ثقافة استدامة داخل المجتمعات. أما على المستوى الفردي، فإن الطلاب يكتسبون فهمًا أعمق للتحديات البيئية والاجتماعية، مما يعزز قدراتهم على التفكير النقدي وحل المشكلات بطرق مبتكرة. هذا التعليم لا يحسن فقط من فرصهم الوظيفية، بل يزرع فيهم إحساسًا بالمسؤولية تجاه الأجيال القادمة.

أساس التعليم المستدام

يعتمد التعليم المستدام على نهج متعدد التخصصات يجمع بين العلوم البيئية، الاقتصاد، العلوم الاجتماعية، والهندسة، وغيرها من المجالات. هذا النهج يمكّن الطلاب من رؤية التحديات من زوايا متعددة، مما يعزز قدرتهم على تطوير حلول شاملة. على سبيل المثال، لا يمكن معالجة تغير المناخ بمعزل عن تأثيراته الاجتماعية والاقتصادية، مثل تهجير السكان أو تكاليف التكيف الاقتصادية. من خلال دمج هذه التخصصات، يصبح الطلاب قادرين على تحليل الأنظمة المعقدة وفهم العلاقات بين مكوناتها.

تشمل استراتيجيات تنفيذ هذا النهج تصميم المناهج الدراسية لتشمل التعليم البيئي والاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية، بالإضافة إلى استخدام التدريس الجماعي الذي يجمع بين أساتذة من تخصصات مختلفة. كما يشجع التعلم القائم على المشاريع والأبحاث متعددة التخصصات الطلاب على تطبيق المعرفة في سياقات واقعية، مما يعزز من قدراتهم على الابتكار والتعاون.

تجارب عملية من الجامعات المصرية

جامعة النيل تقدم مجموعة من المقررات التي تربط بين الجوانب التقنية والاجتماعية والاقتصادية للاستدامة. وعلى المستوى الجامعي، تدرّس مقررًا اختياريًا في العلوم الطبيعية يركز على تقنيات إدارة النفايات، والاقتصاد الدائري. في مقرر علم المواد لطلاب الهندسة الصناعية، تضيف قسمًا عن المواد الحيوية المستدامة والمركبات الحيوية. أما على مستوى الدراسات العليا، فتشمل مشاريع مثل تصميم روبوتات ناعمة لتعزيز الشعاب المرجانية، وتطوير أغشية طبيعية لمعالجة مياه الصرف الصناعي، وتصنيع مواد فعالة للخلايا الشمسية من مصادر حيوية. تعتمد الجامعة على ربط النظرية بالمشكلات الواقعية من خلال التعاون مع الصناعة، مما أدى إلى تسجيل ثلاث براءات اختراع وتطوير نماذج أولية لأنظمة معالجة المياه.

وامثلة من جامعات اخرى , تقدم مقررًا دراسيًا للدراسات العليا بعنوان "الهندسة من أجل التنمية المستدامة". يركز المقرر على موضوعات مثل التكنولوجيا الخضراء، إدارة النفايات، الإنتاج النظيف، وتقييم الأثر البيئي، مع تحديث المحتوى كل ثلاث سنوات لمواكبة التطورات. يعتمد التدريس على تقديم المفاهيم النظرية تليها دراسات حالة تطبيقية، غالبًا يتم تنفيذها داخل الحرم الجامعي كدليل عملي. يشارك الطلاب، الذين يأتون من خلفيات متنوعة مثل الهندسة، الاقتصاد، والبيولوجيا، في مشاريع متعددة خلال الفصل الدراسي، مما يعكس الطبيعة متعددة التخصصات للاستدامة و يؤكد  أن هذا التنوع يثري التجربة التعليمية ويعزز فهم الطلاب للترابط بين الأنظمة المختلفة.

مثال اخر,حيث تقود الجامعات المصرية جهودًا رائدة لإعادة تدوير المخلفات الزراعية، مثل أوراق النخيل، بقايا قصب السكر، وسيقان القطن، التي يفضل تسميتها "بقايا المنتجات الزراعية". تعمل الجامعات مع طلاب مشاريع التخرج في برنامج الهندسة الميكانيكية لدراسة الخواص التقنية لهذه المواد واستكشاف إمكانيات تحويلها إلى منتجات ذات قيمة مضافة. يتناول أسلوبه التدريسي أيضًا التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية لهذه المواد المستدامة. نتيجة لهذه الجهود، أسس أحد خريجيه شركة تستخدم القش لإنتاج منتجات مستدامة تباع في الأسواق المحلية والعالمية، مما يعكس أثر التعليم المستدام على الوعي والمبادرة.

التحديات التي تواجه التعليم المستدام

على الرغم من النجاحات الملحوظة التي حققتها بعض المبادرات المعنية بالاستدامة في مصر، لا تزال هذه الجهود تصطدم بجملة من التحديات البنيوية والسياقية التي تعيق تحقيق الأثر المرجو منها على نطاق واسع.أولى هذه التحديات تتمثل في ضعف الوعي المجتمعي بأهمية الاستدامة، سواء بين الأفراد أو في أوساط القطاع الخاص أو على مستوى صناع القرار. ويُلاحظ وجود فجوة واضحة بين ما يُدرّس في المؤسسات الأكاديمية من مفاهيم ومبادئ الاستدامة، وبين التطبيق العملي لها في القطاعات الإنتاجية والخدمية، ما يعكس الحاجة إلى تبسيط هذه المفاهيم وتوطينها بما يتناسب مع الخصوصية الثقافية والاقتصادية للمجتمع.تُضاف إلى ذلك محدودية الدعم المادي والفني الموجه لمشروعات البحث العلمي والتخرج التي تُعنى بالاستخدام الفعّال للموارد، وخاصة في مجال المنتجات الثانوية للزراعة، مما يؤدي إلى إهدار موارد طبيعية واقتصادية يمكن أن تشكل بدائل مستدامة ومجدية اقتصاديًا.

ومن التحديات اللافتة كذلك، الانبعاثات الكربونية المرتفعة الناتجة عن بعض العمليات الصناعية التي تُصنّف ضمن الاقتصاد الأخضر، ما يخلق حالة من التناقض تُقلل من ثقة الطلاب والباحثين في جدوى بعض الحلول المطروحة. كما أن قلة توفر التقنيات المتقدمة والبدائل التكنولوجية الصديقة للبيئة داخل السوق المصري تعرقل التوسع في تطبيق نماذج الاستدامة المعتمدة على التكنولوجيا.وتُفاقم الأزمة ندرة الكوادر الفنية المدربة على تصميم وتنفيذ حلول مستدامة محلية الصنع، في ظل غياب برامج تدريب ممنهجة تدعم بناء قدرات الأفراد في هذا المجال. كما تبرز فجوة التنسيق المؤسسي بين الجهات الحكومية، القطاع الخاص، المجتمع المدني، والمؤسسات البحثية، مما يؤدي إلى تكرار الجهود وتضارب السياسات بدلًا من التكامل.

من ناحية أخرى، فإن غياب التشريعات الملزمة أو تطبيقها بشكل غير فعال، إلى جانب نقص الحوافز الاقتصادية للاستثمار في الابتكارات البيئية، يحد من انخراط الشركات الناشئة والمستثمرين في تطوير نماذج أعمال توازن بين العائد الاقتصادي والحفاظ على البيئة والصحة العامة.في المجمل، تقتضي مواجهة هذه التحديات تبني نهج شامل وتشاركي يرتكز على إصلاح السياسات، تعزيز التوعية، دعم البحث والتطوير، وتوفير بنية تحتية داعمة للابتكار والتعاون بين القطاعات المختلفة.

 

توصيات لتعزيز التعليم المستدام

تجاوز التحديات البنيوية والمعرفية والمؤسسية التي تعيق تبني مبادئ الاستدامة في السياق المصري، يُوصى باتباع نهج متعدد الأبعاد يعزز من التكامل بين التعليم، البحث، السياسات العامة، والقطاع الخاص. في هذا الإطار، يمثل تعزيز التعاون بين الجامعات والقطاع الخاص نقطة انطلاق أساسية، من خلال تطوير برامج تدريب مهني ومشروعات تخرج تطبيقية موجهة نحو تحديات واقعية تواجه القطاعات الإنتاجية. كما ينبغي تشجيع شراكات البحث والتطوير (R&D) بين المؤسسات الأكاديمية والصناعية بهدف إنتاج حلول تقنية محلية ذات كفاءة واستدامة. ويمكن تدعيم هذا التوجه عبر تشكيل مجالس استشارية مشتركة تساهم في مواءمة المناهج والمقررات مع متطلبات التحول الأخضر.

 

إلى جانب ذلك، فإن الدعم الحكومي والتشريعي يشكل محورًا حيويًا في تحفيز سلوكيات السوق نحو الاستدامة. ويشمل ذلك تقديم حوافز اقتصادية كالتخفيضات الضريبية أو المنح للمشروعات التي تعتمد ممارسات مستدامة، فضلًا عن إدراج معايير الاستدامة ضمن سياسات المشتريات الحكومية. كما يُقترح إنشاء صناديق وطنية للتمويل الأخضر بالشراكة مع المؤسسات المصرفية والجهات المانحة، بما يعزز من قدرة رواد الأعمال والشركات الناشئة على تطوير حلول مبتكرة وفعالة. وعلى مستوى النظام التعليمي، من الضروري إعادة تصميم المقررات الدراسية لتعزيز التعلم القائم على المشروعات (PBL) ودراسة الحالات المحلية، بما يساعد الطلاب على الربط بين الجوانب النظرية والتطبيق العملي. كما ينبغي دمج مفاهيم الاستدامة كعنصر عرضي داخل كافة التخصصات الجامعية، بما في ذلك الهندسة، العلوم، والعلوم الاجتماعية. وفي هذا السياق، تكتسب برامج "خدمة المجتمع المستدام" أهمية متزايدة لإشراك الطلاب في أنشطة مجتمعية عملية، مثل إعادة التدوير، الزراعة الحضرية، أو تحسين كفاءة الطاقة في الأحياء منخفضة الدخل. كذلك، يُوصى بتكثيف الجهود الرامية إلى رفع الوعي وتدريب صناع القرار من خلال تنظيم ورش عمل متخصصة للقيادات الحكومية والصناعية، بما يسهم في تعزيز فهمهم لأدوات التخطيط المستدام وتقييم الأثر البيئي. كما ينبغي إطلاق حملات توعية إعلامية شاملة موجهة للجمهور العام، تستفيد من المنصات الرقمية والقصص المصورة والأمثلة المحلية لإبراز الفوائد المجتمعية والاقتصادية طويلة المدى للتحول المستدام.

 أما على صعيد البحث العلمي والابتكار، فإن إنشاء مراكز ابتكار جامعية متعددة التخصصات يمثل خطوة جوهرية في ربط المخرجات الأكاديمية بالاحتياجات التنموية. ويجب أن ترافق هذه المراكز منح بحثية تنافسية موجهة نحو قضايا ملحة مثل الطاقة المتجددة، الاقتصاد الدائري، وإدارة الموارد الطبيعية. ويعزز ذلك إنشاء منصات إلكترونية لربط الباحثين بالصناعة لتبادل الاحتياجات والحلول.وأخيرًا، فإن تطوير أدوات تقييم ومتابعة فعالة يعد عنصرًا حاسمًا في ضمان استدامة البرامج والمبادرات. ويشمل ذلك تصميم أطر تقييم متكاملة تعتمد على مؤشرات أداء محددة مثل معدلات توظيف الخريجين في وظائف خضراء، وعدد المشروعات البيئية المنفذة، ومستويات تقليل البصمة الكربونية. كما ينبغي إرساء آليات تغذية راجعة تشمل استبيانات دورية، وتحليلات أثر مجتمعي، وإصدار تقرير وطني سنوي لقياس مدى التقدم المحرز في التعليم من أجل الاستدامة، مما يوفر مرجعية موثوقة لصانعي السياسات والمؤسسات التعليمية.

 

الخاتمة

 

يبرز دمج مبادئ الاستدامة في التعليم العالي كعامل أساسي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، حيث يعزز قدرات الطلاب على مواجهة التحديات العالمية ويحفز الابتكار ويقلل من الأثر البيئي للمؤسسات التعليمية. التجارب المصرية فى بعض الجامعات تظهر إمكانات هائلة لهذا النهج، لكنها تتطلب دعمًا أوسع من الحكومة والمجتمع لسد الفجوة بين النظرية والتطبيق. من خلال تبني الاستراتيجيات المقترحة، يمكن للجامعات أن تصبح روادًا في بناء مستقبل مستدام يحقق التوازن بين احتياجات الحاضر ومصالح الأجيال القادمة.

 

 

 

 

 

 

المراجع

1.        Molthan-Hill P, Blaj-Ward L, Mbah MF, Ledley TS. Climate Change Education at Universities: elevance and Strategies for Every Discipline. In: Handbook of Climate Change Mitigation and Adaptation: Third Edition. Vol 5. Springer International Publishing; 2022:3395-3458. doi:10.1007/978-3-030-72579-2_153

2.      Diouf G. Millenium Development Goals (Mdgs) and Sustainable Development Goals (Sdgs) in Social Welfare. Vol 1.; 2019. http://ijsoc.goacademica.com

3.      van Niekerk AJ. Inclusive economic sustainability: SDGs and global inequality. Sustainability (Switzerland). 2020;12(13). doi:10.3390/su12135427

4.      Sodiq A, Baloch AAB, Khan SA, et al. Towards modern sustainable cities: Review of sustainability principles and trends. J Clean Prod. 2019;227:972-1001. doi:10.1016/j.jclepro.2019.04.106

5.      Bonsu NO, Tyreehageman J, Kele J. Beyond agenda 2030: Future-oriented mechanisms in localising the sustainable development goals (sdgs). Sustainability (Switzerland). 2020;12(23):1-21. doi:10.3390/su12239797

6.      Baimenov A, Liverakos P. PUBLIC SERVICE EXCELLENCE IN THE 21ST CENTURY.

7.      Leal Filho W, Frankenberger F, Salvia AL, et al. A framework for the implementation of the Sustainable Development Goals in university programmes. J Clean Prod. 2021;299. doi:10.1016/j.jclepro.2021.126915

 

8.      Steele W, Rickards L. THE SUSTAINABLE DEVELOPMENT GOALS IN HIGHER EDUCATION A Transformative Agenda?