المركز الإعلامي - المقالات


                                                                                        article image

العمل الأهلي مقاربة جديدة

 

إعداد

د. أيمن السيد عبد الوهاب

مدير مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تحولات المجتمع المصري، تشير في كثير منها إلى أهمية وثقل دور منظمات العمل الأهلي في رسوخ سبل دعم الأمن الاجتماعي والتماسك المجتمعي، وفي حجم المشاركة والتفاعل مع المبادرات الرئاسية والمجتمعية، وفي ارتكاز الاستراتيجيات الوطنية على الجمعيات الأهلية ودورها التنموي وتعاطيها مع أزمتي المشاركة والتوزيع وقدرتها على التعبير عن التشكيلات الاجتماعية والثقافية في الدولة.

لذا يمثل واقع المنظمات الأهلية أحد المداخل الرئيسية لفهم طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وأحد المجالات الحيوية العاكسة لطبيعة مشاركة المواطن وما يحكمها من ثقافة وقيم وما تنتجه من انعكاسات على تركيبة المجتمع وتفاعلاته وبنظرة سريعة على الاستراتيجيات الوطنية المتعددة سواء المرتبطة برؤية الدولة الكلية مثل استراتيجية مصر للتنمية المستدامة ٤٠٣٠ والاستراتيجية الوطنية الحقوق الانسان والمبادرة الرئاسية حياة كريمة و100 مليون صحة أتحضر  للأخضر، أو الاستراتيجيات القطاعية المرتبطة بالفئات والشرائح المجتمعية المتعددة الخاصة بالمرأة والطفولة والشباب وذوى الاعاقة والمهمشين، جميعها استندت إلى أهمية المشاركة بين القطاعات الثلاثة الحكومي والأهلي والخاص، الأمر الذي تجلى أيضا في رؤية التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي عبر دعم النهج التشاركي بين أعضائه، والربط بين المبادرات والاستراتيجيات الوطنية منذ انطلاقة في مارس ٢٠٢٢، حيث اعتمد فلسفة دعم سياسات التنمية البشرية وتعزيز التماسك المجتمعي، وهو ما يؤكده الاطار التشريعي للتحالف بموجب القانون رقم ١٧١ لسنة ٢٠٢٣ الصادر في ٣١ أغسطس ٢٠٢٣ الذي أتاح إنشاء التحالف بقرار من رئيس الجمهورية، وفي هذا السياق، صدر قرار رئيس الجمهورية رقم ١٤٩ لسنة ٢٠٢٤ في ٢ مايو ٢٠٢٤ لإضفاء الطابع القانوني على التحالف الذي يضم أكثر من ١٣٦ كيان تنموي وخدمي وثقافي

أولا النهج التشاركي مدخل للتنمية بالمشاركة

اتساقا مع هذه الرؤية كانت مبادرة البداية جديدة لبناء الانسان المصري" الهادفة للتركيز على الأمن والتنمية الانسانية، تأكيدا على أهمية تكامل الجهود والتنسيق الكامل بين الجهات والمؤسسات الحكومية والأهلية. لزيادة الاهتمام بالاستثمار في رأس المال الاجتماعي، وتعزيز مكونات الأمن القومي ومجالات الاقتصاد التنافسي، وذلك من أجل تحسين جود الحياة للمصريين وترسيخ قيم الهوية والانتماء

التنمية هي ركيزة بناء الإنسان، والإنسان هو صانعها، تلك المعادلة التي تبدو بديهية - وهي كذلك تطرح أيضا الكثير من النتائج والحقائق المتعلقة بمسارات التنمية، وما أفرزته من نتائج، وواقع على ماهية الدولة والمجتمع تصب هذه النتائج وتلك الحقائق في دور الانسان في المجتمع وحدود مسئولياته من هنا كان التركيز على متطلبات التنمية المستدامة، انطلاقا من أن تؤدى التنمية الاقتصادية إلى تنمية اجتماعية وتنمية إنسانية، والذي يتطلب بدوره تفعيل أطر الثقافة العامة المتعلقة بثقافة العمل ودعم ثقافة ريادة الأعمال، وغيرها، من المكونات الثقافية الداعمة لبناء الوعي الذاتي، والحوار المجتمعي وتحفيز البيئة الحاضنة المعززة للمشاركة، والمسئولية الجماعية والمحددة لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الدولة والمواطن.

من هنا، يتضح تزايد الاتجاه والمؤشرات العاكسة لنهج التنمية بالمشاركة من جانب الدولة والعديد من المؤسسات المجتمعية، وتعزيز الدور التنموي للمنظمات الأهلية كنهج تشاركي يسعى للربط بين الأجندة التنموية للمنظمات الأهلية مع الأجندة التنموية للدولة، وفي هذا السياق يمكن التأكيد على عدد من المؤشرات والدلائل الخاصة بتنامي دور العمل الأهلي مع الميل الرسمي لتجزئة السياسات العامة وتقريبها من المواطنين حتى يمكنهم التعامل معها بقدر معقول من الكفاءة، نذكر منها

 

1.     استناد رؤية استراتيجية مصر ٢٠٣٠ الى عقد اجتماعي جديد يشمل علاقة الدولة بالمجتمع، وفي القلب منها المواطن، ولذا تبقى مسالة زيادة المكون التنموي والتوعوي على أجندة العمل الأهلي، مسألة حتمية نظرا لدور التنظيمات الأهلية كتنظيمات وسيطة داعمة لعملية تنظيم تفاعلات المواطنين والمجتمع، حتى يمكن تفعيل متطلبات الإصلاح الاقتصادي من ناحية، ومواجهة التداعيات الممتدة من ناحية أخرى، وذلك عبر إدارة كفء للموارد والقدرات المادية والبشرية للدولة والمجتمع.

2.     حدود الرهان على العمل الأهلي كمدخل تنموي تمكيني يتطلب بدوره تحديد المسئوليات والوظائف والأدوار، ونقطة البداية هنا رسم الخريطة المعرفية للعمل الأهلي لتحديد حجم الإسهام الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وهنا يمكن التأكيد على عدد من النقاط:

·       تنمية الادراك المجتمعي بمتطلبات التنمية ومساراتها، يقتضي رسم خريطة الجمعيات الأهلية والوقوف على توزيعها الجغرافي ومجالات العمل الاجتماعي، حتى يمكن تغيير خريطة العمل الأهلي وفقا للاحتياجات التنموية، وأولوياتها على المستويين المحلى والقومي.

·       تعزيز العمل الأهلي المؤسسي عبر مزيد من الدعم المؤسسي للمنظمات الأهلية وزيادة أعدادها والاهتمام بالكيف مع الكم. فمقارنة الاعداد الحالية نحو ٣٨ ألف منظمة أهلية مع عدد السكان نحو 105 مليون نسمة، يتضح لنا قلة أعدادها والحاجة لتحليل خريطة توزيع الجمعيات بما يتوافق مع الحاجة المتزايدة للاحتياجات المجتمعية ومناطق الكثافة السكانية.

·       دعم جمعيات المظلة وزيادة اعدادها حتى تستطيع دعم وتعزيز قدرات الجمعيات القاعدية وربطها بمسارات التنمية، وذلك من خلال ربط الجمعيات الأهلية بالأجندة التنموية وقضاياها مع رفع درجة الوعي المجتمعي، ودعم العلاقة التشاركية بين الجمعيات الأهلية الكبرى والجمعيات القاعدية حتى بتوافر للأخيرة القدرة على المشاركة بمزيد من الفاعلية في تنمية مجتمعاتها المحلية. كما تشير الى ذلك مبادرة تنمية الريف المصري ومبادرة حياة كريمة التي تهدف إلى الارتقاء بمؤشرات التنمية البشرية من تعليم وصحة وبيئة، وتعظيم قيم المواطنة والمساواة.

3.     الاهتمام بالمكون الثقافي وربطة بالمكون التنموي بالقدر الذي يزيد من قدرات المنظمات الأهلية (متوسط وضعيفة القدرات بما ينعكس على أجندة المنظمات الأهلية ودورها ومسئولياتها لمواجهة الاختلالات والظواهر الاجتماعية ذات التأثير السلبي على تماسك المجتمع

 

ثانيا: متطلبات تعزيز النهج التشاركي

 

فرضت التحولات الاجتماعية والقيمية والضغوط المعيشية الناتجة على الاصلاح الاقتصادي الذي شهده المجتمع المصري، فضلا عن التحديات الدولية التي تعكسها اضطرابات الاقليم والصراعات الدولية متمثلة في تباطؤ حركة النمو الاقتصادي العالمي وتراجع التجارة الدولية والعديد من الصعوبات على الدولة المصرية، وتنامي الكثير من الأعباء والضغوط على عملية الاصلاح والتنمية، وهو ما يتطلب الدفع نحو مزيد من الفاعلية والاستثمار لقدرات وموارد الدولة والمجتمع. وفي هذا الإطار يمكن التأكيد على عدد من القضايا الداعمة لتفعيل القطاع الأهلي باعتبار القطاع الثالث الداعم لحركة المجتمع ومتطلباته التنموية بالمفهوم الواسع نذكر منها:

1.     أهمية تكامل مكونات المجتمع المدني مع العمل الأهلي من خلال صباغة أجندة تنموية تساهم في بناء بيئة مجتمعية قادرة على عزل الافكار المتطرفة والمتعصبة، والحد من الاستقطاب السياسي. والاجتماعي وصهر الخلافات، وإدارة التنوع والتعدد الثقافي، وتغليب قيم التسامح والحوار والكرامة.

2.     تحفير مشاركة الشباب واجتذابهم لعضوية مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات العمل الأهلي، حتى يمكن زيادة فعالية تنظيم التفاعلات المجتمعية، لاسيما تجاه جبل زد (جيل z) الذي تتباين رؤاه تجاه الدولة والمجتمع وذاته، وطبيعة مشاركته ومسئولياته.

3.     الرهان على أدوار فاعلة للمجتمع المدني ومنظمات العمل الأهلي يتطلب إعادة صباغة الأدوار والمسئوليات عبر مواجهة تحديات تتعلق بالثقافة المجتمعية والخبرة المتراكمة وغلبة الطابع التقليدي وضعف أنماط الحداثة في المجتمع ولذا يجب تفعيل مقومات القانون الحالي للعمل الأهلي ٤٩ لعام ٢٠١٩ لزيادة دعم الجمعيات التنموية لمواجهة الاختلال القائم حاليا لصالح الجمعيات الخيرية والمساعدات الاجتماعية، فضلا عن دعم الدور الثقافي والتنويري للجمعيات، وتنمية عملية التطوع، والحد من غلبة الشخصية وضعف المؤسسية.

لذا يجب الوقوف على تأثيرات الفجوة التنموية وضعف الهياكل الاجتماعية واهتزاز البنية الاجتماعية، وتعدد المرجعيات الفكرية والثقافية والقيمية وعدم اكتمال عملية التحديث وتزايد درجات تناقض والتضاد الثقافي  والقيمي مع استمرار غلبة الثقافة التقليدية فضلا عن توفير مزيد من قوة الدفع والرهان على المنظمات الأهلية في مواجهة الاختلالات الاجتماعية والظواهر المجتمعية السلبية ودعم مسارات التنمية وتعزيز مشاركة المواطنين، كسبيل لتعزيز اليات عمل البني الاجتماعية وبث الفاعلية في المجتمع، وإعادة تكوين القوى الاجتماعية والفكرية الضرورية للإصلاح والبناء والتنمية

بمعنى أدق إن اللحظة الراهنة التي تمر بها الدولة المصرية تفرض دعم النمط التنموي المستند إلى قاعدة حقوقية كفلسفة ورؤية حاكمة للعمل الأهلي، وذلك للحاجة الشديدة لتعظيم موارد وقدرات المنظمات الأهلية والمجتمع المدني كشريك تنموي مع الحكومة والقطاع الخاص. كما أن اللحظة تفرض نشر وترسيخ ثقافة المشاركة والمسئولية المجتمعية وزيادة ثقافة التطوع، وذلك لتعظيم قيمة المواطنة وتفعيل دور المواطن في تحمله مسئولية البناء في المرحلة الراهنة.

من هنا تأتي أهمية المقاربة الجديدة للعمل الأهلي في تفعيل مقومات المجتمع كركيزة وقاعدة بناء داعمة للتقدم، وتقديم النموذج التنموي المصري في القرن الحادي والعشرين، وذلك من خلال الدفع نحو مزيد من دعم التكامل بين السياسات العامة من ناحية، وتكامل الأطر التشريعية الداعمة لمكونات العمل الأهلي ومؤسسات المجتمع المدني من ناحية أخرى، وأن ينعكس ذلك فيه

 

صياغة مجموعة القوانين المباشرة، مثل قانون النقابات والتعاونيات والمحليات على سبيل المثال. ومجموعة قوانين غير مباشرة مثل الضرائب وغيرها التي تساعد على تنشيط المسئولية المجتمعية والتطوع وتضمن توفير قوة دفع حقيقية للمجتمع لتلبية احتياجاته، وزيادة فرص الرهان على تطوره وتمكينه وتحصينه