المركز الإعلامي - المقالات


                                                                                        article image

دور المنظمات الأهلية في تعزيز منظومة حقوق الإنسان

 

دور المنظمات الأهلية في تعزيز منظومة حقوق الإنسان

 

إعداد

د. ولاء جاد

الشريك المؤسس لاستدامة للأبحاث ودراسات الجدوى عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان

 

مقدمة

 

حقوق الإنسان، هي تلك المعايير الأساسية التي بدونها لا يتسنى للناس العيش بكرامة كبشر، ورغم أن العالم احتاج قرون طويلة ومخاضات عسيرة ليصل الي اتفاق عالمي حول " ماهية" ونطاق هذه المعايير، إلا أنه في النهاية توافق على ما لا يمكن للإنسانية أن تستمر في غيابه، ودونه في حزمة من الصكوك الدولية ارتقت تدريجيا من مرحلة التبني الأدبي" إلى مرحلة" الالزام القانوني".

وبتعاقب العقود تطورت تلك المنظومة -عالمية الطابع – وتشكلت مكوناتها ليصبح لها معايير وأدوات وآليات للحماية والتعزيز، وما من دولة في العالم الان إلا وانضمت إلي هذه المنظومة أو على الاقل معظم مكوناتها، من خلال تصديقها وانضمامها الي الاتفاقيات والعهود المنشئة لتلك الحقوق والمؤطرة لهذه المعايير.

فمنذ عام 1948 وحتى الان تزايدت حركة تقنين حقوق الإنسان عالميا من خلال الامم المتحدة التي تبنت واصدرت 17 اعلانا وعهدا واتفاقية وبروتوكولا ملحقا تغطي جوانب حقوق الإنسان المختلفة ، وبالتوازي نشطت التجمعات الاقليمية هي الاخرى في تبني وإقرار حزمة من الصكوك الحقوقية يستوجب الالتزام بها وانفاذها في الدول التي تتمتع بعضوية هذه التجمعات، اما على الصعيد الوطني فقد بادرت معظم الدولة بإدماج المعايير الحقوقية في الدساتير والقوانين الوطنية والأنظمة القانونية الداخلية، وهكذا ما إن تم تأسيس الحق قانوناً، أضحى نفس الحق هو الأداة القانونية التي يمكن لحاملي الحقوق استخدامها للمطالبة أمام حاملي الواجبات الآخرين في حالات الحرمان من هذا الحق أو انتهاكه، وبهذا يمكن محاسبة أولئك الذين يتحملون الالتزامات والمسئوليات (حاملي الواجبات).

وعلى الرغم من أنها لا تزال تحتاج لمزيد من التطوير والتمكين من مواجهة القوة السياسية للدول المؤثرة، إلا أن منظومة حقوق الانسان بوضعها الراهن تلعب دورا لا يمكن إنكاره في تشكيل سمات وملامح عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبحت رقما مهما في معادلة العلاقات الدولية والوزن الدبلوماسي والجاذبية الاقتصادية للدول والحكومات، فضلا عن إنها أصبحت معلما مهما من معالم تحضر الامم ورقيها.

4/1 دور منظمات المجتمع في تعزيز حقوق الانسان

كجزء من التطور في منظومة حماية وتعزيز حقوق الإنسان فقد حظيت منظمات المجتمع المدني وفي القلب منها المنظمات الاهلية خلال العقدين الأخيرين باهتمام متنامي من الباحثين وصناع السياسات والحكومات والوكالات الدولية ، وقد تزامن هذا الاهتمام بتزايد الدور الذي تلعبه هذه المنظمات في عمليات التنمية بمفهومها الشامل ( اقتصادي ، سياسي ، واجتماعي) ، خاصة في ظل الاتفاق على أهمية المشاركة الشعبية بوصفها وسيلة للتنمية وواحد من أهدافها الرئيسية في نفس الوقت ، فمنظمات المجتمع المدني تعد بمثابة " الإطار المؤسسي " الذي يستوعب وينظم مشاركة المواطنين في الشأن العام .

 

وتعطي المنظومة الأممية لحماية حقوق الإنسان فرص واسعة لمنظمات المجتمع المدني للمشاركة في آليات حماية حقوق الإنسان من خلال مسارات مختلفة، حيث يتمتع نظام الأمم المتحدة لحماية حقوق الإنسان بعلاقة طويلة وإيجابية مع منظمات المجتمع المدني. وعلى مر السنين، تطورت ترتيبات المشاركة الرسمية للمنظمات الأهلية في اجتماعات الأمم المتحدة وهيئاتها إلى ممارسة منتشرة في معظم هيئات الأمم المتحدة وكل آلياتها بلا استثناء تقريبا.

 

حيث تسمح آليات الأمم المتحدة لمنظمات المجتمع المدني بالحصول على المركز الاستشاري ، ووجود "مركز استشاري" يعني أن المنظمة قد حصلت على حق المشاركة في عملية التشاور مع المنظمة الدولية ،وتسمح المشاركة في عملية التشاور لممثلي المنظمات الأهلية في التعبير عن وجهات نظرهم بشأن القضايا التي نوقشت في المؤتمرات والاجتماعات أو في وضع البنود على جدول أعمالهم، كما يحق للمنظمات المتمتعة بالمركز الاستشاري تقديم "تقاريرالظل" المعروفة أيضا بـ "التقارير البديلة" هي تقارير موازية للتقارير الرسمية التي تقدمها الحكومة بشأن تنفيذها للمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، فضلا عن إتاحة المجال لمنظمات المجتمع المدني للتواصل والتعاون والمشاركة في كافة الاليات الأممية الاخرى المعنية بمتابعة وحماية حقوق الإنسان .

وعلى الصعيد الوطني، فإن منظمات المجتمع المدني بمختلف اشكالها تلعب دورا محوريا ومؤثرا في تعزيز حقوق الإنسان خاصة في ظل التطور الذي طرأ على قواعد حقوق الإنسان في السـنوات الأخيرة، لتشمل بناء منظومة متكاملة من المفاهيم والممارســــات، فيما يعرف بالنهج القائم على حقوق الإنســان "HRBA”، وهو النهج الذي يتبني أفضل الحلول والمقاربات لدمج قواعد حقوق الإنسـان في الإدارة والممارسة الفعلية في التخطيط والتنفيذ، وصولا لإنفاذ حقوق الإنسان.

 

ويجب هنا أن نشير الي أن الأهداف الحقوقية ترتبط بتحقيق مبادئ حقوق الإنسان، ولا ينبغي أن تتوقف على ما تستطيع منظمة واحدة أن تحققه بمواردها الذاتية بل عبر منظمات تعمل مع الأطراف الحكومية وغير الحكومية نحو الأهداف الحقوقية المشتركة، وتندمج في تحالفات وشبكات مستخدمة مختلف أدوات التشبيك والشراكات ولتحقيق هذه الأهداف طويلة المدى والواسعة والطموحة فهناك حاجة ملحة للعمل مع مختلف المنظمات وعلى مختلف المستويات.

 

ويمكن توصيف ملامح الدور الذي يمكن – بل يجب- أن تلعبه منظمات المجتمع المدني لتعزيز حقوق الإنسان باستخدام المقاربة الحقوقية من خلال فهم التدرج الطبيعي في خطوات الوفاء بالحقوق وإنفاذها، وهو التدرج الذي تبدأ عتبته الاولى من إتاحة الحقوق وتمكين الناس من الوصول إليها، ثم حماية هؤلاء المعرضين لانتهاك حقوقهم وتوعيتهم بشأن متطلبات واجراءات الوصول للحق،وأخيرا المساهمة في إقرار وتبني سياسات عامة مستجيبة لمعايير حقوق الإنسان وضامنة للحماية والانتصاف.

 

4/2 دور منظمات المجتمع المدني في تعزيز الاتاحة وإمكانية الوصول للحقوق

قد لا يكون سبب انتهاك الحق هو تعمد الدول والحكومات حرمان بعض الناس من حقوقهم، لكنه قد يكون راجعا لقصور في الموارد والامكانيات والقدرات يقود إلي ترك مجموعات من المواطنين خلف ركب التنمية وتحت خط الفقر ونقص القدرة على الوفاء باحتياجاتهم وحقوقهم الاساسية في المأكل والملبس والمشرب والمأوى.

 

وهنا يبرز دور منظمات المجتمع المدني المتخصصة في أنشطة وخدمات الإغاثة والمهتمة بمجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث تتدخل بما تستطيع تعبئته من موارد تطوعية لمساعدة هؤلاء الذي يفتقدون القدرة للوصول لحقوقهم وتمكينهم من الحصول عليها، إما من خلال التدخلات الإغاثية والمساعدات المباشرة، أو من خلال تدخلات بناء القدرات وتمكين هذه الفئات من استعادة سبل العيش الكريم.

 

والنماذج الملهمة لهذا التوجه كثيرة ومتعددة حول العالم، فهناك الآلاف من المنظمات الإغاثية والخيرية التي تقوم بهذا الدور على أكمل وجه، وفي مصر هناك العديد من المنظمات الكبرى التي اكتسبت خبرات متراكمة في هذا الجانب من العمل الحقوقي المباشر، وربما يكون التحالف الأهلي للعمل التنموي نموذجا مهما لهذا النوع من التدخلات من جانب منظمات المجتمع المدني، خاصة أنه يضم في عضويته أهم وأكبر المنظمات التنموية والإغاثية والخيرية في مصر.

 

فقد اتسم أداء المجتمع المدني المصري تحت مظلة التحالف الأهلي للعمل التنموي خلال الازمات الأخيرة التي تطلبت تدخلا من هذا النوع – دعم الفئات المتضررة من الازمة الاقتصادية، والعدوان على قطاع غزة - بقدر من التنسيق شكل قيمة مضافة هامة لتنسيق الجهود بين منظمات العمل الخيري وساعد على مد نشاط المنظمات الاعضاء والوصول لأعداد أكبر من الفئات المستحقة.

 

4/3 دور منظمات المجتمع المدني في التوعية والحماية من انتهاكات حقوق الإنسان

تلعب منظمات المجتمع المدني دورا مهما في التثقيف والتوعية بالحقوق، وتنشط منظمات المجتمع المدني الحقوقية والتنموية على السواء في هذا المجال الذي يعد ضروريا ولازما لسد فجوة المعرفة بالحقوق وطرق الوفاء بها والتدخل للمساعدة في حال التعرض للانتهاكات

 

وبشكل عام يمكننا حصر أهم مجالات نشاط المنظمات الأهلية في التوعية بالحقوق القانونية والدستورية التي تستهدف مدى واسع من الفئات، كما تتضمن سلة من الحقوق، التدريب على الصكوك الدولية لحماية حقوق الإنسان، التدريب على مهارات متابعة الانتخابات والمشاركة السياسية بشكل عام، التوعية في المجالات الإنجابية والسكانية.

 

وعلى صعيد موازي يمكن أن تلعب منظمات المجتمع المدني دورا مهما في حماية المواطنين من انتهاكات حقوقهم وتمكينهم من الوصول الي آليات الانتصاف في حال تعرضهم للانتهاك، وربما تكون تدخلات المساعدة القانونية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان نموذجا شائعا لهذه التدخلات كما أن دور المجتمع المدني في حماية والدفاع عن مستهلكي السلع والخدمات يعد أحد اشكال دور الحماية والتوعية ، حيث تساهم في التصدي لارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل المواد الغذائية والأدوية إلى جانب الانتشار المخيف للغش والفساد الذي تغلغل في المعاملات العادية.

 

وتعد المنظمات الحقوقية المصرية التي تصاعدت حركتها منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي نماذج واضحة لممارسة أدوار التوعية بمعايير حقوق الانسان، والحماية من الانتهاكات، وقد تراكمت لدى هذه المنظمات خبرات كبيرة في هذا المجال وحاز عدد منها يزيد عن 20 منظمة على المركز الاستشاري بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة.

 

4/4 دور منظمات المجتمع المدني في المناصرة وإصلاح سياسات تعزيز حقوق الانسان

السياسات العامة هي الدليل محدد المبادئ للإجراءات التي تتخذها السلطات التنفيذية الإدارية للدولة فيما يتعلق بفئة معينة من القضايا بطريقة تتماشى مع القانون والأعراف المؤسسية. وبشكل عام، يتمثل أساس السياسات العامة في مدى الالتزام بالقانون الوطني الدستوري الأساسي ذي الصلة وكذلك تنفيذ التشريعات.

 

وفي مجال حقوق الانسان يتطلب الامر مشاركة الاطراف المختلفة في مناقشة واقتراح وإصلاح السياسات العامة لتبقي دائما قادرة على الاستجابة لمعايير حقوق الإنسان ، وهنا يبرز دور منظمات المجتمع المدني التي تلعب – بفعل التصاقها بالجمهور – دورا في التعبير عن تطلعات الناس وتبلور مشكلاتهم وتربطها بمعايير والتزامات حقوق الانسان التي تقع على كاهل الدولة ، ومن ثم فإن هذه المنظمات يمكن أن تكون اكثر الاطراف فاعلية في تحليل السياسات القائمة واقتراح بدائل عنها ، خاصة أن هذه المنظمات بحكم القانون الناظم لها لا تعد صاحبة مصلحة اقتصادية او مالية او سياسية ، فهي محايدة وموضوعية وغير حزبية وغير ربحية ، وبالتالي فإن الاصلاحات المقترحة من جانبها ستكون اقرب لتلبية تطلعات السواد الاعظم من الجمهور.

 

وتشير مطالعة واقع وخبرات المجتمع المدني المصري الي بروز نماذج جيدة في هذا الصدد، وعلى الرغم من أن معظم مراكز التفكير تابعة لمؤسسات حكومية او كيانات اكاديمية جامعية، إلا أن هناك مؤسسات تفكير أقرب للمجتمع المدني ربما اهمها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية الذي لعب دورا ملحوظا خلال السنوات الخمس الماضية في تحليل واقتراح سياسات بديلة على مستوى القطاعات الامنية والخدماتية والسياسة الخارجية.

 

كما نشطت بعض المنظمات الحقوقية المصرية في مجال دعم المساءلة الاجتماعية للمسئولين المنتخبين ، والقيام بدور الوسيط بين المواطنين من جهة وأعضاء المجالس الشعبية المنتخبة والمسئولين التنفيذيين من جهة ثانية ، وقد كان لمؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الانسان تجربة ثرية في هذا الشأن ، حيث نفذت المؤسسة في عام 2008 مشروع الحوار المجتمعي لأعضاء البرلمان ، الذي نجح في تشكيل مجموعة من اللجان من القيادات الشعبية داخل المحافظات المستهدفة ، لتقييم أداء أعضاء البرلمان كما عزز التواصل مع عدد من نواب المجالس التشريعية المنتخبة وفتح حوارات مجتمعية معهـم انتهت بتوصيات لسياسات عامة بديلة تلبي احتياجات المواطنين .

 

4/5 التحديات والمسائل المستقبلية.. نحو دور أكثر فاعلية للمجتمع المدني في تعزيز حقوق الانسان

رغم الاهمية المتزايدة والنشاط الملحوظ لمنظمات المجتمع المدني في تعزيز جوانب حقوق الإنسان، إلا أن هناك من التحديات ما يستوجب التدخل من أجل تذليله، خاصة في ظل ديناميكية متضمنات معايير حقوق الإنسان، تلك الديناميكية التي تفرضها تزايد الاحتياجات والتطور التكنولوجي وتعاظم التحديات على السياقات الوطنية والاقليمية والدولية، ويمكن أن نبرز اهم التحديات والمعالجات المستقبلية اللازمة فيما يلي: -

-تحدي القدرات المؤسسية: فمنظمات المجتمع المدني لكي تنمو وتتطور ويزيد فاعلية ادوارها، تحتاج باستمرار إلى تخطيط وتنفيذ استراتيجيات ملائمة لتعزيز قدراتها المؤسسية والبشرية لتلائم السياق الذي تعمل فيه، ومن هنا يبرز الدور الذي يمكن ان تلعبه منصات ووحدات قديم الدعم الفني والمؤسسي للمنظمات الاهلية الكبرى على غرار النموذج الذي تتبعه مؤسسة مصر الخير على سبيل المثال.

-تحدي التنسيق والتكامل بين منظمات العمل الأهلي: وهي مسالة في غاية الأهمية، حيث يحتاج العمل الأهلي لتطوير بنيته التنظيمية والقواعد الحاكمة والمنظمة لعمله والعلاقات المتبادلة بين مكوناته، وضمانات ومتطلبات التنسيق والتكامل المستمرين بما يضمن تعظيم الجهود وكفاءة العمل والبناء على النتائج بدلا من التضارب وتكرار الجهود.

-تحدي التمويل: وهو قضية في غاية الاهمية لضمان قدرة منظمات المجتمع المدني على تلبية متطلبات تعزيز حقوق الانسان، وهنا تبرز الحاجة إلى ضرورة وجود آليات تمويل وطنية تنظر إلى العمل الأهلي ككل متكامل ومترابط، ومن ثم ضرورة دعم المنظمات العاملة في المجال الحقوقي المتعلق بالمناصرة وإصلاح السياسات والتثقيف والحماية، جنبا إلى جنب مع استمرار دعم المنظمات العاملة في المجال الإغاثي والمساعدات المباشرة.

-تحدي الفصل بين ما هو سياسي وايديولوجي من جانب وما هو حقوقي وموضوعي من جانب آخر: فالملاحظ إنه بسبب حالة الركود والخواء السياسي في عقود سابقة، بادرت منظمات حقوقية ونشطاء للعب أدوار لها طابع سياسي، وهو ما أثر بالسلب على الصورة الذهنية للحركة الحقوقية وخلق نقاط احتقان بينها وبين الدولة، وقد آن الآوان لمعالجة هذه القضية بشكل شفاف وأمين على ارضية الاعتراف بالدور الهام والمحوري لمنظمات المجتمع المدني في تعزيز حقوق الانسان.